ذاكرتي كتاب مغلق بأقفال الزمن، صفحاتها تزخر بكل ما سطرته الأيام بحلوها ومرها، أبتسملها أحيانا و أبكي حين تعز الدموع في المآقي المرهقة،كثيرا ما أحاول أن أسبر غورها فأنجح أحيانا وأفشل مرات و مرات.
شدني الشوق وأنا أردد أبياتا من ذاكرة الطفولة و بواكير انبثاق عواطف الطفل الواسن في أعماقي ، سؤال ألح علي أن أفتح صفحة علاها غبار الزمن، في لحظة انبثاق العواطف كانبثاق البراعم في الأغصان في ابتداء الربيع ، أليست الدنيا معاش للورى حتى إذا جاء الربيع فإنما هي منظر؟ أين البداية في عشق الحياة و الكائنات؟
بدأت أقلب الصفحات للوراء رويدا رويدا، لتصبح الصور أكثر ضبابية رغم وضوح الأحداث ، وفي لحظة تردد خرجت فجأة أمامي صورة في كامل زينتها و بهائها و وضوحها رغم عقود الزمن .
المكان: مدرسة الوكالة الإعدادية للبنين . الزمان: الساعة السادسة و النصف صباحا قبل الطابور المدرسي
الأشخاص: فتيان يجلسان متجاورين يسندان ظهريهما للسور الطويل الذي يفصلهما عن مدرسة الوكالة الإعدادية للإناث
الوصف : كانا يتجاذبان أطراف الحديث بهدوء و انسجام فتعلو شفتيهما أحيانا ابتسامات لطيفة و ربما تظهر بعض أسنانهما الأمامية قليلا بضحكات خفيفة عندما يميا أحدهما برأسه ناظرا في عيني الآخر ، ولا يقلقهما سوى اقتراب أحد من أقرانهما من الساحة أمامهما التي كانت تعج بالطلبة وهم يتوافدون الى الساحة من البوابة الحديدية الرئيسية للمدرسة عن يمينهما.
اقتربت نحوهما قليلا كطيف لأسنمع للحديث خلسة ، أحدهما كان أنا ببنطال كاكي و مثله القميص، كنت أمردا بشعر قصير أمسك كتبي و دفاتري و قد جمعتها بشريط مطاطي عريض ،و الآخر صديق طفولتي وحيد (وهو الآن في ذمة الله) رحمة الله عليه ،يرتدي نفس الزي المدرسي و بوجهه الأبيض المائل للحمرة كانت تنعكس عليه أشعة شمس الصباح الرقيقة فيزداد حمرة و بهائا، وربما لسبب آخر، جلست أمامهما لأسمع:
أحبك من كل قلبي و روحي. و قلبي حلال لكل جميل
أحبك لما أراك و. لما. أرى منك شيئا فيشفي العليل
فشعرك. يلعب. بأذوبة. و يحكم علي بأني هابيل
و عيونك طالما اشتقت لها. و أصبحت بنار حبي قتيل
و كأني أكتبها الآن بعد أن عجزت طويلا في محاولة جمع الكلمات المتفرقة في ذاكرتي مرات و مرات و مرات دون جدوى ، نعم لا بد انها كانت البدايات الأولى في تلك الفترة من العمر ، فرغم عشقي القاتل للفيزياء و الرياضيات فقد كنت أذوب عشقا في لغتي ، كيف لا وقد كنت ألهج في طوابير الصباح و نحن نردد قصائد الأوطان .
علي محمود طه : أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد و حق الفدا
و إبراهيم طوقان: موطني موطني. الجلال و البهاء في علاك في علاك
و بلاد العرب أوطاني. من الشام لبغدان. ومن نجد إلى يمن الى مصر فتطوان
و سأحمل روحي على راحتي و ألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق. و إما ممات يغيظ العدا للشهيد عبد الرحيم محمود
نعم كانت بدايات فورة العواطف و صياغة القصائد و تكوين الصور الذهنية في أنقى اللحظات.
بدأت الصورة الذهنية تنسحب من ذاكرتي شيئا ف شيئا لتعود حيث كانت ، و شفاهي تردد كلمات القوافي متسارعة حتى لا يطويها النسيان. د. رياض أبو طالب ٢ شباط ٢٠٢١