أنّات الذاكرة
الوهم (الجزء الثالث)
وقفت على الرصيف لبرهة أتأمل المكان، كان كل شيء يبدو لي غريبا، عمارات متراصة على جانب الشارع، بمداخل متشابهة بعض الشيء، تتكون من عدة طبقات و تتوزع فيها النوافذ بشكل متساوٍ، وتتناثر بعض الأشجار على الأرصفة وبعضها يتشابك مع أعمدة الكهرباء، يمتد الشارع قليلا الى الأعلى لينفتح على ساحة فسيحة يتوسطها دائرة حجرية يلتف الشارع حولها ليتفرع الى الشمال والى الجنوب ، وفي المقابل ترى شارعا ضيقا ينتهي عند مبنىً كبيرا تشي لافتته الى أنه مستشفى، وفي وسط الدائرة الاسمنتية التي تتوسط المكان مظلة متوسطة الحجم يقف تحتها شرطي بلباس رسمي ، يعلو رأسه قلنسوة أنيقة يعلوها قطعة معدنية مدببة، ويتدلى منها في الخلف قطعة قماشية عريضة تكسو الرقبة حتى الأكتاف بنفس لون القبعة، ويحمل بيده صلفرة لامعة ذات صوت قوي تساعده في توجيه حركة السير مع اشارات مختلفة الدلالات يفهمها السائقوون بشكل بديهي، وبعض المارة يتوزعون الى طرقات ضيقة حول المكان بكل سهولة ، اذاً هذا هو الدوار الأول، شعرت بارتياح قليلا وبعض التانس مع المكان، ثم رجعت الى حيث نزلت من السيارة، ، كان مدخل العمارة وبابه الحديدي يعلو ثلاث درجات مرتفعة عن مستوى الرصيف؛ عندما ولجت الى مدخل العمارة ،كان النور ر خافتا وأتيا عبر الباب من الشارع ،فلم يكن هناك سوى مصباح كهربائي وحيد في نهاية الرواق ،المؤدي للدرج، ولم يكن على الجانبين أية ابواب ،والجوانب خالية الا من بعض عدادات الكهرباء ،اما الدرج فيتكون من وحدتين صعودا تفصلهما مسطبة ضيقة وكل وحدة تتكون من عدد كبير من الدرجات بميل شديد عن مستوى الأرض؛ تحفها من الجانب الداخلي درابزين اسمنتي بارتفاع متوسط ،كتلك التي كنا نتزحلق عليها نزولا اثناء الفرص او انتهاء الدوام في المدارس الاعدادية اختصارا للوقت أو تجنبا للزحام عند مغادرة الطلاب.
صعدت الدرجات دون عناء الى الطابق الثاني، كان هناك في الرواق اربعة ابواب ، منها ثلاثة مغلقة وواحدا موارباً قليلا، وبجانبه لوحة رصاصية مكتوب عليها (مكتب لجنة اليتيم العربي)، شعرت بارتياح ؛وأخذت نفسا عميقا بعد أن أصلحت هندامي ،وتأكدت من نظافة حذائي، ومسحت يداي اللواتي تعرقتا فجأة بمؤخرة البنطال مرة ،وبدسها في جيوبي مع الفرك مرة أخرى، ثم أخذت نفسا عميقا ودققت بأصابعي برفق على الباب بعد تردد طويل، كان الهدوء والصمت يلف المكان ، انتظرت طويلا ولم اسمع اي رد او ما يوحي بالرد ، وتشجعت لأدق مرة أخرى دقاتا أقوى (فلم يكن هناك جرس تنبيه عند الباب) ولكن لا يوجد رد .قررت بعد تفكير ان اخذ خطوة متقدمة، فدفعت الباب قليلا ولحظي لم يصدر صريرا مما شجعني ان افتحه بالقدر الذي يسمح لي بالولوج .لاجد نفسي في ممر ضيق طويل بأضائة خافتة يستمدها من باب نصف مفتوح في نهاية الدهليز ، انتظرت قليلا علني اسمع صوتا أو حركة أو أي شيء ، مرت لحظات احسست كأنني اعيش احدى قصص ارسين لوبين او الشياطين الأربعة البوليسية الغامضة، التي كنا نقرأها في اشهر العطل الصيفية ، ليقطع شرودي صوت نحنحة قادما من الغرفة المضائة .فرددت بنحنحة مثلها وبصوت أعلى ليأتيني الرد سريعا: تفضل :بصوت عميق أجش وحروف واضحة؛ و بتثاقل مشيت نحو الباب، ودفعته برفق رويدا رويدا، منحنيا بجسمي باتجاه انحنائة الباب ومطلاٍ برأسي الى الداخل.
كان المكتب كبيراً مضاءٍ بمصباح كهربائي متدليا من وسط السقف داخل اسطوانة من القماش الشفاف بلون مائل للأصفر ،وفانوسا مكتبيا قصيرا فوق مكتب خشبي كبير يتوسط الغرفة ،يئن سطحه من اكداس الأوراق والمجلات والكتب المتناثرة دون ترتيب، وبالجوانب ارفف تحمل المجلدات والكتب وبعض التحف ، وخلف المكتب شباك يرسل اضائة النهار عبر ستارة داكنة وشفافة تعكس رهبة اضافية على الرجل الجالس خلف المكتب،.ببزته السوداء وربطة العنق المزركشة بمربعات بيضاء و سوداء ، وبشعره الأبيض الكثيف مع شارب طويل وذقن حليق ، يحمل بيده اليمنى غليونا اسودا يخرج منه خيط رفيع من الدخان ،ويضع نظارات طبية سميكة تخفي الكثير من ملامحه وتزيده غموضا.
صباح الخير ، قلتها بصوت متحشرج ليأتي الرد صباح النور، تفضل ، وأشار بيده للكرسي امام المكتب بعد ان شاهد حيرتي، خيرا ؟ استجمعت شتات نفسي وعدلت جلستي وتعمدت ان اضع المغلف والأوراق امامه على الطاوله بحيث تعلوها جميعا مجلة العربي، وأخبرته بكلمات موجزة عن قصتي، وسبب مثولي أمامه، فتمكان اخر، ثم انحنى الى الأمام قائلا : ولكن يا أبني هذه دراسة خطرة،وليس لها مستقبل في بلادنا العربية!ماذا ستعمل عندما تعود؟ ام انك لا تنوي أن تعود؟
وبدون تردد اجبت : طبعا سأعود ، سأعود لخدمة شعوبنا وأمتنا العربية!!
تململ الرجل في مقعده وبدا كأنه يبحث في الأوراق أمامه من غير هدى عن دليل يثبت كذبي، ثم نظر الي نظرة حزن واشفاق وقال: الم تسمع عن العالم العراقي الذي قتلته المخابرات الأمريكية ؟ ألم تسمع عن العالم المصري الذي قتل بالسم؟ الم تسمع عن العالمة المصرية التي اغتيلت في المانيا؟ الم تسمع عن العالم فلان الذي أسقطت به الطائرة؟ الم.....الم...، أسئله كثيرة ألقاها على مسامعي التي أصيبت بالصمم وحل مكانها فراغ كثيف افقدني الحواس كل هؤلاء كانو علماء ذرة عرب لم أسمع بأحد منهم قط ،قتلوا واحدا تلو الاخر .
ذهبت كل محاولاتي للنقاش او حتى الرد ادراج الرياح ،فقد انعقد لساني ملتصقا بحلقي الجاف، حينما
بدأ رأسي يدور وارتعدت فرائسي وتخدرت قدماي وأنا أُلملم أوراقي ومجلتي بيدين مرتعشتين ، متسمرا في مقعدي متمنيا لو أن لي الان جناحين أطير بهما عابرا النافذة الى حضن أبي، ولكن كيف وأنا أحس بأن كل مخابرات العالم تلاحقني بعيونها وقد اكتُشِفَ امري، بل ربما أن هذا المدير هو نفسه احد رجالهم وقد دسوه في هذا المكان كي يكتشف العلماء قبل أن يولدوا ، وبكل ما أملك من قدرة وارادة استطعت أن اقف على قدمي ، لأغادر هذا المكان مسرعا بحلاوة الروح ،نحو درج العمارة دون القاء تحية الوداع فيكفي ما انكشف من أمري حتى الان ، لأبدأ رحلة النزول الطويل عن الدرج الملعون الذي يزداد طولا كلما قطعت بعضا منه، متلفتا في كل اتجاه لعل احدا ما يلاحقني ، حتى استطعت أن أتجاوز العتبات الى الفضاء الخارجي وعيناي تدور كعقرب الساعة تمسح كل شيء ساكن او متحرك ، الشبابيك والسيارات والمارة وحتى حاويات النفايات والأشجار، وأحسست ان كل شيء حولي بدا صامتا وساكنا مجللا بالسواد وتطل باتجاهي ومن حولي مئات العيون المتفحصة،وبكل قوة لا اعلم كيف ، نزلت الشارع الى وسط المدينة لأغيب بين جموع الناس المارة والمختلطة من كل اتجاه بعيدا عن الانظار ومتعمدا التغيير في اتجاهات حركتي بأسلوب أفعواني، ورفعا وانخفاضا.ولم يتبقى من اثرٍ لي غير مجلة العربي الملقاة خلسة على الرصيف تتقلب صفحاتها بهبات الهواء المندسة بين الأجساد المتحركة لتتقاذفها
. اقدام المشاة تاركة على صفحاتها بصماتها السوداء
د. رياض ابو طالب سمر الرجل في مقعده لبرهة ، ورجع بظهره الى الوراء متكئاً على كرسيه، ليشعل غليونه ويأخذ نفسا عميقا، ليزفر بعدها بسحابة من الدخان الأبيض طيب الرائحة كالبخور ،ليسألني دون النظر في عيني: هل حقاً تود دراسة الهندسة النووية؟
نعم؛ هكذا أجبته ولم انسي ان اضيف بعض العبارات لاظهر جديتي وصدق رغبتي ،واخرجت له رسالة القبول من الجامعة توكيدا لنيتي . لم ينظر الرجل للرسالة وربما لم يسمع حتى كلمة مما قلت ، فقط كان يحدق في وجهي ،ولكن عقله كان شاردا في م