الجرذ الباكي أنّات الذاكرة
الجرذ الباكي
عادة ما استمتع بالقراءة بعد الهزيع الأول من الليل، حيث السكينة والهدوء تطغى على المكان، وفنجان القهوة المرّة يشق عبيرهاطريقه سريعا لمستقبلات الشم المرهقة برائحة العوادم البشرية،وأخبار محطات التلفزة واليوتيوب المزركشة بأزياء غجرية خادعة مشبعة بالتشويه والكذب والنفاق، والشبق النقدي المترع بسموم الكلمات المتعفنة.
كنت اجري بحثا عن الجرذان، بعد ان اعياني البحث عن وسيلة للقبض على جرذ ماكر وخفي تم لمحه اكثر من مرة في احد اركان مزرعتي ، رغم انني والحق يقال لم اشاهده يوما، مما استدعاني ان اطلق يد القطط التي وزعت عليها استراتيجيات الملاحقة الصعبة في الاركان، بالاغراء والتحليل وباستخدام النظريات العلمية للانعكاسات الشرطية واسلوب الترغيب والترهيب والعصا والجزرة، وقد اكتشفت اخيرا دليل الجريمة الكاملة للجرذ الخبيث بعد افتراسه لقطة رضيعة رغم كل الاجراءات الامنية المتبعة.
لقد استدعاني هذا الفشل بالقبض على الجرذ متلبسا لدراسة السلوك الفأري الماكر.
فعدى عن أن الفئران يحبون العيش قرب البشر وينشطون ليلا ولهم ذيل طويل وأن حاسة الشم لديهم قوية جدا ويصلون سن التكاثر باكرا ربما بعمر ٥٠ يوما اناثا وذكورا، ويتكاثرون على مدى العام وربما تلد الانثى ٥٠ فأرا في السنة، وهم لا يستطيعون رؤية الالوان لكنهم يميزون تدرج الظلال، وأنهم نباتيون في الأصل ولكن ذلك لا يمنع ان يأكلوا اي شيء حتى جثث الفئران الاخرى وربما يقرضون ذيولهم في حال عدم توفر الطعام. وأن حالة النزاء لديهم تمتد٤_٥ أيام حيث تتسافد خلالها يوميا ١٢ ساعة متواصلة كل مساء، وأن الأناث لا تدخل في حالة الشبق في غياب الذكور، وحال توفر الذكور تنتظم دورتها بسبب تعرضها لكم كبير من الفرمونات بروائحها الجاذبة، .
ولكن أكثر ما شد انتباهي هو الجينوم الفأري.
لقد تبين أن الجينوم الفأري يماثل تقريبا الجينوم البشري، حتىبمجموع الشيفرات الوراثية التي تنتج بروتينات متماثلة، وأن تتابع الجينات على الكروموزومات في الفأر والانسان متماثلة أيضا، وهو نفس التتابع في أغلب الأحيان الا ان المسافات بينها قد تختلف وقد يمتد هذا التتابع عبر مسافات طويلة.
أما الأغربان هناك ما يسمى(العنصر المتكرر القديم) وهو عبارة عن جينات (قافزة) تنسخ نفسها موضعيا وتقفز لتتموضع في اماكن اخرى على الضفائر النووية ( dna) وأن ٤٥%من الجينوم البشري والفأري هو من تلك الجينات القافزة ، وهناك جينات مبتورة في تلك العناصر القديمة المتكررة في الكروموزوم البشري فقدت القدرة على أداء وظيفتها،
الفأر الباكي.
بعض الجرذان والفئران يتميز بغزارة الدمع وفي دموعه مجموعة من البروتينات التي تعمل كأشاؤات فرمونية تجعل الأناث أكثر تقبلا للجنس، والتزاوج، وتزهر الذكر اكثر وسامة وجاذبية للاناث، وتعطي ايضا اشارات تحذيرية للجرذان بأنهم على مقربة من حيوان مفترس.
عند هذه النقطة سرحت قليلا بخيالي وذاكرتي ، متصفحا الكثير من الوجوه الحوارية الفأرية تملأ عشرات الشاشات والصفحات الاخبارية والاجتماعية والاعلامية، كانت كلها رؤوس جرذان متشابهة الا من بعض الالوان ، تتشابه حركات انةفها وشفاهها وانتفاضات ايديها وقفزاتها غير الرتيبة، عيونها حمراء تمتلىء دمعا بروتينيا فرمونيا تبثه في كل اتجاه ، غير مستقرة على قفاها فوق ابمقاعد، عيونها ورؤوسها تتحرك حركات مجنونة بادية قواطعها مع اصوات خبيثة منفرة وعالية التردد ، تصم الاذان، وزبد افواهها يتناثر في المكان الموبوء مدفوعة بشبق التسافد الفكري الطويل وربما بذيول تمتد حتى اطراف الذاكرة المغدورة، وجيناتها القافزة تعلن انتفاء الادمية والهبوط المرير نحو الحيوانية.
أيعقل هذا ؟ فأين العقل ؟ فان كان هو مجمل الافكار والمفاهيم والذكريات والمشاعر والنوايا وهو ما يميز الادمي لوجود تلك القشرة الدماغية الرقيقة التي ربما تفتقد خواصها السامية تلك القوارض، فبدونها ينتفي النفع منها وتصير العواصف الفرمونية الدولارية والبروتينات المصلحية والاطراءات الدمعية والانعكاسات الشرطية البدائية للمؤثرات االغريزية هي مايسير السلوك الادمي تماما كجرذان الحقل، ويصير الادمي جزءا من قطيع فاقدا للحواس والرؤية او يموت انتحارا لا مقصودا في مواسم التسافد في تشابك عصبي منقوص الهدف تحت طبقةالوعي والادراك ليحل الفرمون فيه مكان العقل.ليصبحوا متشابهين كالجرذان في كل شيء ولا يختلفون الا ربما بطول الذنب. د. رياض ابو طالب