أنّات الذاكرة
( ما قبل الذاكرة)
كم كان يوماً طويلاً ومرهقاً !! فقد كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل ، حين لاحت مني التفاتة سريعة لساعة الحائط المعلقة في غرفة العمليات وأنا أزيل القفازات واللباس الملطخ بالدم لاخذ نفسا عميقا بعد ان انهيت العملية الجراحية الصعبة ، التي استغرقتني أكثر من اربع ساعات متواصلة .
لقد كان ظهري يؤلمني بشدة ، وأحس بحرقةشديدة في اكتافي وثقل كالجبل في رأسي وعيوني و بالكاد استطعت أن أرى الطريق لاستراحة العمليات متهالكا على أحد المقاعد ، ولم يكن يخفف تعبي غير قرب احتضاني لوسادتي والنوم طويلا وعميقا في فراشي الدافيء.
بعد ان أتممت اجراءات ما بعد العملية ، من أوامر وتوصيات ، واطمئنان اخير عن وضع المريض الصحي من طبيب التخدير، اسرعت نازلاً الدرج المؤدي لمواقف السيارات الذي يبعد عدة طوابق نزولا، لم انتظر المصعد فلا اريد وقتا ضائعا في الانتظار، ولكن لماذا اصبح هذا الدرج اطول مرات مما اعرفه فهو لا يكاد ينتهي ابدا، لقد كنت اقطعه قبلا في اقل من دقيقة وهو الان يحتاج دهرا، ولكن لا بأس فقد وصلت اخيرا، وما ان فتحت الباب المؤدي للمواقف ، حتى فوجئت بهبات هواء قوية وشديدة البرودة تلسع وجهي ، وظلام دامس يلف المكان بلا ادنى فرصة للرؤية، بحثت عن مفتاح السيارة في كل جيوبي مرات ومرات عله يساعدني في كشف الطريق ولكن عبثا دون فائدة.
!! لا بد انني نسيته في غرفة الغيار *
فهذا كثيرا ما يحدث معي
عدت أدراجي مرة أخرى بلا زمن يذكر، وعاودتني هبات الهواء الباردة لافحة ظهري وأكتافي ، وأنا انطلق مسرعا قاطعا شوارع المدينة شبه الخالية الا من أضواء خافتة كالحلقات المتشابكة ، تتكسر انوارها بقطرات المطر العالقة بالسطح الخارجي للزجاج الأمامي ، كشبكة عنكبوتية رقيقة تكاد تُفقِدُني التركيز على معالم الطريق وتزيد شدة صداعي اضعافا مضاعفة
لكن أكثر ما كان يضايقني هو الشعور بأن ملابسي كانت تشتد ضيقا حد الأختناق وأن حذائي قد كبر نمرتين عن مقاس قدمي او لا أدري ربما صغرت قدماي نمرتين! وأن رأسي ما زال مغلفا باناء ثقيل، وأن عيوني بالكاد استطيع أن ابقيها مفتوحة للحظات وكأن جفوني أُلصقت بمادة غروية شديدة.
لا بد أن ذلك كله بسبب التعب المتواصل وقلة النوم والفناجين الثلاثة من القهوة المرة التي احتسيتها قبل العملية،هكذا كنت احادث نفسي ، حين تراءىلي المنزل من بعيد أخيرا.وما أن وصلت الى باب المنزل حتى وجدت نفسي اعبره بسهولة دون الحاجة لاستخدام المفتاح، وما أن ولجت الى الداخل تمتمت غاضبا من الذي لم يترك مصباحا واحدا في البيت الا وتركه مضاءً ، اه كم هم عديمي المسؤولية ابنائي ليكونوا بهذا الاسراف.
ذهبت لغرفة نومي ، ولكن اهذه غرفة نومي التي أعرفها واعرف كل شبر فيها ، لا بد انني احلم ، اين سريري ؟ أين دولابي ومراتي، وملابس نومي، اين دفاتري وكتبي وأقلامي؟ اين اوراقي المبعثرة في كل مكان ،فقط طاولة السفرة وكرسي واحد، اين باقي المقاعد؟ وعندما بدأت بتغيير ملابسي اكتشفت انني ما زلت ارتدي ملابس العمليات الرقيقة، وحتى حذاء العمليات، وغطاء الرأس والقفازات التي أبَّت ان تُزال رغم كل المحاولات شدا وفركا، فتهالكت جالسا على كرسي السفرة الوحيد أمامي تحت وطأة التعب، شابكا اصابعي المُقَفَّزَة لأسند رأسي الثقيل عليها، محاولا سرقة لحظات من النوم بأي ثمن، .لم يمضي سوى لحظات كأنها دهرحتى احسست بعصى تربت على كتفي المتخدر كالمطرقة، عدة مرات متتالية، وصوت عميق يتردد ببطء كأنه قادم من أعماق جُبٍ بلا قرار.
حاولت تجاهله اكثر من مره ، لكنه عاد بتردد عال هذه المرة .(دكتورنا تفضل العمليات جاهزة والمريض مخدر وجاهز على طاولة العمليات) د. رياض ابو طالب