1 قراءة دقيقة
06 Feb
06Feb

الوهم الجزء الأول                              أنّات الذاكرة
                       الوهم (الجزء الأول)
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل،وهو مازال يتقلب في فراشه  شابكا يديه خلف رأسه ،ناظرا الى سقف الغرفة و مراقبا الخيالات بأشكالها المختلفة منعكسة على الأجسام المارة امام مصباح الكهرباء المعلق على العمود الخشبي امام النافذة، وتارة الى الحائط امامه حيث تتوسطه صورة كبيرة باطار ذهبي لوالده ،مرتديا بذلته السوداء ، بابتسامة عذبة رغم الملامح الجادة المرسومة على وجهه الأبيض، هو يتذكر متى وأين التقطت هذه الصورة ، والمناسبة المحزنة المرتبطة بها، ولكن ما كان يشغل تفكيره بعنف وقلق كبير هو لقاء الغد المصيري.
بالكاد اتم السنة السابعة عشر من عمره قبل شهر ، عندما وصلته الرسالة التي كان ينتظرها مطولا وهو يتقلب فوق جمر الأنتظار ، السطر الأول يقول انه تم قبوله في احدى أكبر وأعرق الجامعات في ولاية ألنوي الأمريكية لدراسة الهندسة النووية.
وأخيرا  وأخيرا سأحقق حلمي ، هكذا كان يحدث بها نفسه مطولا، ليلا ونهارا، ولكن ما كان يقلقه  سؤال كبير، كيف ؟ كيف يمكنني ان أصل الى هناك ؟ فالمال شحيح، ووالدي ليس له عمل الأن ، فقد ودعنا الثراء منذ امد ،بعد هجرة تلاها نزوح خلال العشرين عاما الماضية، فكيف لسيد الأرض ان يمتهن مهنة! وشاحناته كانت تنقل عشرات الأطنان من مختلف انواع الفاكهة والمزروعات  والحمضيات بأنواعها (من بياراته الممتده الى منتهى النظر) ليتم تصديرها من ميناء يافا الى اوروبا ، ولديه من العمال العشرات يعملون في حقوله وبياراته، ثم أنهم قدفقدوا شاحناتهم التي استولى عليها الجيش العراقي، لنقل جنوده المنسحبين من جبهة اللد والرملة، تاركينهم تحت قصف طائرات الصهاينة ، ودوي دباباتهم يرتحلون رعبا من بيوتهم و أراضيهم مشيا على الأقدام تحت الشمس الحارقة ، متسلحين  بتأكيدات و وعود مغلظة بحتمية عودتهم لأرضهم خلال أسابيع قليلة ، وأعادة شاحناتهم . أما ماتبقى من نقود  فقد تم انفاقه في رحلات اللجوء والنزوح المرير ، وهم ما زالوا يتمسكون بأمل تحقيق الوعود التي بان كذبها وخداعها ، وأمل تقبيل تراب الوطن.
هكذا حكى قصته لمدرس الفيزياء في المدرسة الثاتوية، عندما وقَفا جانباً قبل أيام بعد انتهاء حصة الفيزياء، يتناقشان حول قوانين ضغط السوائل  وتغيراتها وعلاقتها بالصفر المطلق ودرجة الحرارة ومقدمة النظرية ،التي توصل اليها الشاب خلال ليلة كاملة من الدراسة رياضيا للقوانين ،وأختلافها بأختلاف المؤثرات على فيزياء السوائل، حين لمح المعلم ذلك المغلف الكبير بيده قابضا عليه بقوة ، ليسأله عن محتواه،، فيتنهد الشاب ويخبره بولعه الكبير بالفيزياء النووية والذرات تحديدا منذ الصف السادس الأبتدائي حين وقع في يده كتيب صغير في مكتبة المدرسة تتحدث عن الأنوية الذرية وانشطاراتها ومكوناتها من البروتونات والنيوترونات والميزون والبايميزون والبوزوترونات وغيرها والكم الكبير من المعلومات التي اكتسبها من قراءاته بعد ذلك عن العناصر المشعة والقابلة للأنشطار والطاقة .....الخ، عندها وقف المعلم مشدوها وصامتا لفترة وكأنه يفكر في امر عميق مطرقا برأسه برهة ليرفعه ناظرا الى الشاب ورابتا على كتفه قائلا : امهلني يومين ربما استطيع ان اساعدك وأجد لك حلا.
قبل يومين استدعاه المعلم  في الفرصة بعد الحصة الثالثة، ليخبره انه ربما يكون هناك أملا ما، وربما يفتح له الحظ بابا ،كل،. 
هذه الكلمات وجدت صداها في نفس الشاب وربما فتحت له باب الأمل قليلا ، لكن علاقته بالحظ ما كانت يوما على مايرام ،فلم يكن للحظ في حياته يوما مرادفاً، غير المستحيل ، ونبوءة مكررة من قارئة الفنجان التي كان يستمتع بكلماتها وأشاراتها ، وتعابير وجهها المختلفة وهي تشرح بأقتضاب لوالدته ،خلسة في الجلسات النسائية المسائية لتخبرهابأن ابنها سيكون له شأناً عظيماً في مقبل الأيام ، لم يكن يصدق ما يقال ولكن في داخله كان يحلم بيوم تتحقق النبوءة فيه ، ولكن متى؟
بالأمس زف له معلم الفيزياء الخبر المنتظر ، قائلا : هناك مكتب يهتم بالنوابغ من الشباب العربي، الذين يحلمون بمتابعة تعليمهم العالي وتمنعهم قدراتهم المالية؛اسمه لجنة اليتيم العربي، تنفق عليه دولةك الكويت، وله فرع في عمان، على الدوار الأول في جبل  عمان، 
ولكنني يا أستاذ لست يتيما ، هكذا قال الشاب متحيرا ويائسا.
لا يهم ،هو اسمه هكذا ،ولكن يعتني بالأيتام وغير الأيتام ، أجاب المعلم.
ما أروعك يا دولة الكويت ، ولكن استاذي ما دامت الكويت عظيمة هكذا ،لماذا لم يذكرها فخري البارودي في شعره ،الذي نردده كل يوم في طابور الصباح
بلاد العرب اوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجد الى يمن 
الى مصر فتطوان
نظرا كل منهما للاخر، نظرة عميقة المعاني، ومضيا مفترقين ،تعلو شفاههما ابتسامات تائهة ربما بدلالات تستثير الأسئله، اكثر من استدراج الأجابات                                   د. رياض ابو طالب الى لقاء في الجزء الثاني

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.