1 قراءة دقيقة
06 Feb
06Feb

                           أنّات الذاكرة
                    الوهم(الجزء الثاني)
رغم كل ما دار في رأسه من أسئلة متناقضة، وعدم يقين ، الا انه رأى في المحاولة بارقة امل، فهو يحب هذا البلد الذي لم يره يوما، فقد انطلق منه اعلان حركة التحرر الوطني الفلسطيني ، وأحتضن الالاف من ابناء العرب عمالا ومدرسين ومهنيين اسهموا في بناء البلد الصحراوي القابع على ناصية الخليج العربي، وهو عدا عن حبه للوطن العربي من الماء الى الماء يعشق قراءة كل عدد يصدر لمجلة (العربي) التي تصدرها الكويت شهريا بافتخار، وبثمن لا يتعدى عشرة قروش، لاتاحة الفرصة لكافة الطبقات الاجتماعية للاطلاع على محتواها .اكيد سيأخذون هذا بعين الاعتبار ،هكذا حدثته نفسه .اكثر من مرة وهو يدخل مدرسته،وقد امتلأت رئتيه بنسمات الأمل من جديد، ففي ذلك اليوم، 
اعطاه المعلم العنوان مكتوبا على قصاصة من ورق (عمارتين قبل الوصول للدوار الأول على اليمين، الطابق الثاني)
لم يعرف من العنوان سوى الأسم، فهو لم يغادر الحي  الذي يسكنه والاحياء المؤدية الى المدرسة الا مرات قليلة، لساحة المسجد الحسيني ،اما لصلاة الجمعة مع والده ،أو لابتياع بعض المستلزمات التي يحتاجها البيت ولا تتوفر الا في وسط البلد ،كسوق منكو او شارع بسمان ،او سوق الحميدية ،او سوق اليمانية ، وبعض الأحيان يذهب في العطلة الصيفية الى جبل الحسين ،للتنزه مع الأصدقاء ،او حضور ثلاثة أفلام بتذكرة واحدة في سينما القدس ،في جبل الحسين في الأعياد كأفلام بروسلي ،والكاوبوي ؛ومرة فيلما تاريخيا .
لقد كان رغم ذلك، مصمما على الوصول للعنوان مهما كلف الأمر.
تململ في فراشه عندما غلبه النعاس أخيرا، مسلما امره   ومتوكلا على الله؛  أن يختار له ما ينفعه،في دنياه واخرته، والتوفيق له فيما يحب ويرضى،لينام قرير العين، هاديء البال.
في الصباح الباكر كان عليه ان يركب الحافلة الأولى المتهالكة وقوفا، للوصول الى وسط المدينة، مرورا بمدرسة رغدان الثانويةثم مدرسة كلية الحسين ؛لتهبط الحافلة نزولا ،ملتفة في شارع ضيق يمين القلعة، وتبدأ رحلة الطريق المتعرج والالتفافات الحادة  المنحدرة أخيرا الى شارع الشابسوغ وسوق الصاغة والخياطين .ثم يتجه مشيا على الأقدام مئات الأمتار مرورا بالبنك العربي، ومحل حبيبة الضيق خلف عمارة البنك ،ثم التفافا من امام سينما زهران ،ليتوقف عند كشك الكتب، على الناصية ليشتري أخر عدد من مجلة العربي ،طبعاً لتكون جزءً من استراتيجيته التي ستدعم بلا شك سيرته الذاتية عند المقابلة. ثم ليقطع الشارع مرورا بمطعم هاشم الشهير، الذي كان يعج بالزبائن وتفوح منه رائحة الفول الموزعة بالأطباق على الطاولات تعلوها حبات الحمص وطبقة الزيت ،ترافقها شرحات البصل والفلفل الأخضر وكرات الفلافل التي يسيل لها اللعاب ، عندها حث الخطى سريعا كي لا تتمزق معدته، من الم نزوات الجوع ،التي بدأت باعطاء اشارات التنبيه العاتية ،ضاغطا بطنه بيده، محاولا تسكينها، ونهيها عن البوح الممنوع هذا اليوم، لينحرف يمينا باتجاه مبنى البريد الأثري، فيقطع الشارع المقابل صعودا باتجاه شارع الأمير محمد ،حيث موقف الحافلة الثانية باتجاه الهدف المرتقب .
كانت وسيلة المواصلات الثانية ؛هي سيارات الأجرة(السيرفيس) ،تصطف طابورا طويلا، اغلبها من سيارات المرسيدس الواسعة ذات الخمسة ركاب ، يجلس في المقعد الأمامي راكبان عدا السائق وفي المقعد الخلفي ثلاثة ركاب، وقد كان من حظي بالدور أن اجلس في المقعد الأمامي قرب الشباك.حيث اعتبرتها فرصة عظيمة ،لأنني استطيع ان اراقب السائق وهو يقوم بحركات يديه، وكيف، ومتى ؛ولماذا يبدل يديه مستعينا بالعصى المعدنية الملحقة بالمقود ، ولكن اكثر ما كنت أود رؤيته ،كيف يستطيع ايقاف  وتحريك السيارة ،بعد ان لاحت لي التفاتة الى قطع معدنية قريبة من أقدام السائق، وبعد أن اكتمل العدد ،سأل السائق عن وجهة كل منا ،فأسرعت بالأجابة بعد ان اختطفت نظرة على الورقة وقلت : انا قبل الدوار الأول بعمارتين  على اليمين ، وحرصت أن أكررها له كل بضع دقائق تذكيرا كي لا ينساني مما سبب له الضيق ودعاه ليقول : طيب طيب طيب فهمت خلص ، فشعرت بالتحذير ولزمت الصمت باقي الطريق داعيا الله ان لا ينساني.
كانت السيارة تصعد الطريق بصعوبة ومثقلة بحملها وكأنها تلفظ انفاسها الأخيرة ، وتشهق شهقات شديدة ما أن تتباطأ فيقوم السائق بسحب العصا المعدنية ودفعها للاعلى على المقود لتنزلق السيارة الى الخلف قليلا ثم  يسمع لها صوتا وزعيقا عند اندفاعها الى الأمام
بقينا على هذا الحال حتى توقف السائق وقال: تفضل وساد السكون قليلا وأنا أنظر من الشباك ، ثم صرخ بصوت أعلى:انت مش قلت قبل الدوار بعمارتين تفضل ، انتبهت انه يكلمني ولكن لم استطع قبل النزول الا ان اخذ منه توكيداً، فقلت : انت متأكد ؟ فما كان منه الا أن  حوقل تحذيرا وبسرعة البرق كنت على الرصيف لتنطلق السيارة قبل أن أكمل اغلاق الباب

د. رياض ابو طالب الى لقاء في الجزء الثالث

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.