أنات الذاكرة الرقم العجيب (١) أي بني، إنني لا أدعوك لقراءة ما أكتب، فما أكتبه يكاد يكون هذياناً لا أفهمه. من عجائب الحياة أن المرء يمر بمراحل فارقة في حياته كما باقي المخلوقات، ولكل مرحلة خصائصها و متطلباتها، والكثير منها يصعب فهم العبرة منه و إدراك الحكمة فيه. في السنة الثانية من دراسة الجامعية، قررت أن اقتني وسيلة تنقلي الخاصة، وكم كنت سعيداً بسيارتي ليس بالسيارة بالذات، وإنما لأنني أخيراً سأتخلص من القفز عن الأرصفة، و أشعر ببعض الخصوصية و نظرات من يمتلكون ربما حريتهم المفترضة، ولكن في نفس الوقت كان يحز في قلبي علمي أنني ربما لن أقابل صديقي الرقيب الذي ألفته مرة أخري ، و لا أدري إن كان هو أيضاً سيفتقد غيابي غير المبرر. ذات صباح بارد، قدت سيارتي الحمراء ، المزينة بالتل الاحمر المزركش في طريقي للجامعة، بهدوء وطمأنينة، أذاكر في عقلي ما درسته بالأمس. خرجت باكراً و في ذهني الرغبة ان ألتقي بزملائي عند درج كلية الطب ، حيث نسترق الدقائق المعدودة كل صباح بتبادل الحديث قبل بداية المحاضرة الأولى التي تبدأ دائماً في السابعة صباحاً ولا مجال للتأخر عنها ولو حتى لدقيقة واحدة. فوجئت بطابور طويل من السيارات أمامي، عند حاجز الرقيب، يسأل كل سائق عن بطاقته و بطاقة السيارة ، ثم يسمح له بالمرور، و عندما حان دوري ، كنت قد جهزت البطاقتين اختصاراً للوقت، و قدمتها للرقيب من الشباك راجياً منه الاستعجال بفحصهما . نظر بوجهي عابساً ، وتبادل النظرات بيني و بين البطاقتين مرات عدة هازاً برأسه و أشار بيده أن أنحي السيارة جانباً الى اليمين، حاولت الاعتراض، و اكتفى هو بتكرار الإشارة بيده بصرامة، و لم يكن في حيلتي سوى الإنصياع للأمر. و بعد أن انتهى الطابور ، اقترب مني تعلو وجهه ابتسامة ساخرة ، و قال: أنت بدون رقم وطني ، أليس كذلك؟ قلت: أي رقم ؟ ماذا تعني بالرقم الوطني؟ ولم أكن أعلم حينها غير أرقام الحساب، و رقمي الجامعي الذي أمليته عليه، و كان واضحاً أنه غضب ظاناً أنني أسخر منه. أخرج قلماً و دفتر المخالفات الذي عرفته فوراً، و حرر لي مخالفة. لم المخالفة ؟ ماذا فعلت لكي تخالفني؟ تجاوز خاطيء ، هكذا أجاب. قلت: و لكنني لم أفعل! قطع اعتراضي ، و رمى لي بالورقة ، قائلاً : يمكنك الاعتراض في المحكمة. نسيت لبرهة في شرودي أنني لن ألحق بالمحاضرة الأولى، و تمنيت لو أنني لم أقتني السيارة، و بقيت كقطط الشارع وكسابق عهدي أقفز فوق الأرصفة ، و المطبات و وحفر الماء التي كنت أتجاوزها و أتجاوز المارة بسعادة دون أن يحرر لي الرقيب أية مخالفة. أكملت طريقي و جلست على درج الكلية الإسمنتي وحدي في انتظار المحاضرة التالية.